الخميس، 20 أغسطس 2015

أعظم مقالاتي


تطوير مفهوم العــمل الصَّالح

لقد تمكنت منا محبة القديم بلا ضابط، لذلك ترانا وقد انغلق علينا الفكر بشأن العمل الصَّالح، فحصرناه فيما كان يقوم به السابقون من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ من أعمال النوافل من صوم وصلاة وصدقة، وأصبح قيام الليل له معنى واحد محدد، وهو الصَّلاة وقراءة القرءان، وصار الاعتكاف بالمساجد أوج العمل الصَّالح في مفهومنا السلفي.
والصَّلاة، والصوم، والحج، والصدقة، وإطلاق اللحى، وتلاوة كتاب الله وسائل يقوم بها العبد، ليرتقى بهمَّته، وليدفن شهواته، وهى من مبادئ الأعمال الصَّالحة ومهدها، لكن أنقف عند تلك المبادئ وذلك المهد أم نتقدم؟؟.
ولقد أدلى الفقه القديم بدلوه في عقائدنا، فقد أقام الأقدمون للإسلام أركانا خمسة، منها ما اختاروا تتويجه على تلك الأركان وهو فريضة الصَّلاة، فأشاعوا عنها أنها عماد الدين، وأن من أقامها يكون قد أقام الدين، ومن هدمها يكون قد هدم الدين، وأن تاركها ملعون وجاره ملعون أيضا إن رضي به، بل جعلوها فارقًا بين الكفر والإيمان، ورأيي أنهم تركوا الأهم وعظَّموا المُهم، لأن شهادة الوحدانية لله والإيمان برسوله هي عماد الدين، لكن نظرا لبساطة عقولنا وتعودنا تركها للدّعة والكسل، ولتغلغل فقه الميراث فقد روَّجنا لشعار الصَّلاة عماد الدين بين أولادنا، فعلموا أهمية الأمر، ولم يعلموا عظمة الآمر ، فترى أكثرهم لا يُصلُّون أو يتفلتون منها.
ونظرا لتقديسنا القديم والأقدمين ترى الثقافة الإسلامية القديمة قد راجت في أفكارنا، وترانا ونحن نقاوم كل فكر لمُؤَلِّف جديد، ونتشكك في توجهاته مخافة أن يكون مشكوكا في إخلاصه، وهكذا تم قتل الإبداع والمبدعين وهم على قيد الحياة، بينما ترانا نصيح بلا واقع بأرض الواقع أن الإسلام والقرءان صالحان لكل زمان ومكان، ولست أدري كيف تكون تلك الصلاحية الدائمة ونحن لا نقبل إلا أفكار الأقدمين !!.
لقد تم إنشاء أمة بلا هوية من دين الله إلا بالمناسبات الدينية، وذلك من تركيز الدعاة على ما كان يفعله الصحابة في كل مناسبة، وفقدنا التمازج والتطور مع الحياة، وفقدنا الرَّشاد أيضا، حتى أصبحنا في ذيل الأمم بتهافتنا على القديم والقدماء، ولأن الوظائف والعمل لم تأخذ مكانها الصحيح داخل حظائر فكرنا، لذلك فإننا نؤدي العمل روتينا كما أدَّاه الأقدمون بينما نحسب أننا نُحسن صنعا، حتى تخلفت الأمة التي لا تعي أن الإبداع من العمل الصَّالح، وأن الوظيفة العامة من أسس العمل الصَّالح، وأن التميز في الحرفة من العمل الصَّالح، بل راحت تصف أهل الفكر بالبدعة والخروج على النظام، بل تنعتهم أحيانا بالانحلال الخلقي، بل تقول عنهم بأنهم علمانيين بمعنى فاسقين.
فالألعاب الرياضية، وجهاز التلفاز، ولصق الأوراق على الحوائط، وألعاب الأطفال، والاحتفال بالزفاف بغير الدف، والصور الشمسية...وغير ذلك كثير، يعدّه بعض سدنة التدين السلفي من الفسق أو من الخروج على السُّنة، وأصبح الموظف العام لا ترى عينيه ولا يعي عقله أي قربى لله حين يؤدي وظيفته، لذلك فلا مانع أن يرتشي، أو يُهمل، أو يتعلل للخروج قبل انتهاء ساعات العمل، ومع ذلك فهو يصوم، ويظن أنه يفعل العمل الصَّالح الذي أوصى به رسول الله ، وما ذلك إلا من القصور الفكري عن حقيقة العمل الصَّالح، كما أصبح الحِرَفي والمِهَني في بلادنا أقل إخلاصا وإبداعا، بينما تراه فارسا لأداء نوافل الشعائر.
ثم توسع سدنة التدين في إنشاء طقوس يدَّعون أن فيها ثمرة القرب من الله، فتوسعوا في السُّنَنْ، وفرضوا رؤيتهم في الواجب منها الذي يقرب الناس إلى الجنة، وقاموا بنشر ثقافة التفسيق ينعتون بها من خرج على تعاليمهم، وهكذا حبسونا داخل فقههم عن نوافل الشعائر، وشكل اللباس للمرأة والرجل وهيئتهما الخارجية، ودعوات للصباح وأخرى للمساء، وهذا للخروج وهذا للدخول، ودعاء لتفريج الكرب، ودعاء لإصلاح الأحوال، ودلائل الخيرات للصلاة على خير البرية ، حتى حولوا حياتنا وعلاقتنا بربنا إلى محفوظات قولية، نفزع إليها كما يفزع السحرة لتمائمهم، وهي توسعة غير لازمة لنشر وهم التقرب إلى الله، اللهم إلا من تغير نفسية من يدعو ليقيم لنفسه همَّة غير همَّته، ولا أعني أن نترك الدعاء، لكن أعني أن ننشغل أكثر بذكر الله في طاعته بالعمل لعمارة الحياة ونفع الناس مع عدم ترك الصلاة ولا الدعاء لله.
لقد كان الخراب هو الإفراز الطبيعي لفكر التقوقع في نوافل الشعائر والمأثورات لأبناء خير أُمَّة أُخْرِجَت للناس، فكان البترول تحت أقدامهم، بينما هم يعيشون عيش البدو يرعون الأغنام كأسلافهم، ولا يفكرون إلا في الإكثار من النوافل، حتى جاءهم أصحاب الهمم من كل الملل فاستخرجوا البترول من تحت أرجلهم ليقيموا به ثورة صناعية شملت العالم، وللأسف فات قطارها المسلمين دون أن يلحقوا به.
وقامت قطارات الثورة الرقمية والتكنولوجية والإلكترونية، ونحن ما زلنا نرى العمل الصَّالح في المسبحة والنوافل، حتى أدركنا حضيض التخلف، وكأن الناس يأكلون ويشربون ويتنقلون بالطائرات والسفن ويسكنون الدور والقصور بنوافل الشعائر والمأثورات، وبينما يدعون الله أن يخسف عدوهم، فإن الله يقوي شوكته، ولا يستجيب لهم كما استجاب لنبيه ولصحابته الأجلاء، فلم يلبثوا إلا أسيادا على الأرض.
كما أصبح لنا مفهوم تطبيقي خاص للسُّنة القولية يبين مدى ما أصبحنا فيه من عنت فكري، ولي أن أثبت تلك التوجهات التي سيطرت على أفكارنا وأعمالنا بطرح الأمثلة من سلوكياتنا وما كان يجب أن يقابلها من قويم السلوك، وكيف نسي المتدينين في بلداننا الإسلامية ضرورة تأثر الفقه وتنوع أحكامه بتغير الظروف والأزمنة، لكن هيهات لمن يصيحون باسم السلف ـ بلا عقل ـ أن يعوا ما يدفعون إليه البلاد، وكيف أن نمط ذلك السلوك دفع الأمة للتخلف الحضاري، لذلك فقد اخترت مفهومنا عن العمل الصَّالح كنموذج لتبيان مدى الانحدار الذي وصلنا إليه بتمسكنا بالسلوك الفكري السلفي، وسأتناول سُبل العلاج من منظور فقهي أراه قويما.
لكن في البداية لابد من تصور شكل الحياة بالقرن السابع الميلادي حين نزل القرءان على رسول الله ، وحتى انتقاله إلي رحمة مولاه، فلقد كانت الأنشطة المتوفرة محصورة بين رعي الغنم والإبل والاستفادة من أوبارها وألبانها ولحومها، وتجارة التمر، وبعض الأنشطة اليدوية البسيطة، وسقاية الحجيج، وكانت الحرارة الشديدة لشمس النهار ذات أثر في شكل ونمط الحياة، لذلك لا عجب أن ينحصر العمل الصَّالح في زمانهم في صلوات أو صوم أو صدقة، وخاصة أن تلك النوافل كانت حديثة عهد بالنَّاس فكانوا يعمدون لها لتثبيتها في أنفسهم وأولادهم.
لكنهم كانوا متطورين حياتيا، فقد حفروا الخندق حول المدينة لحمايتها، ولم يكن على عهدهم خنادق، وركب طارق بن زياد الفُلك إلى إسبانيا، ولم يكن لأسلافهم أفلاك حربية، وقاموا بتعيين أمراء للأمصار يعملون بأمر أمير المؤمنين بالمدينة، بينما لم يكن على عهدهم إلا نظام القبائل غير المتفقة أو المتعاهدة.... وهكذا كانوا متطورين وفق الإمكانات المتاحة بعصرهم، لذلك دانت لهم الأرض ومن فيها.
ضرورة تطور مفهوم العمل الصَّالح
إنه مع تطور الأزمنة تنوعت وكثُرت عناصر العمل الصَّالح، وتطورت الفوائد المرجوة من العمل الصَّالح وفق احتياجات كل عصر، فما كان يسعد النَّاس بالأمس لم يعد يُطرب أحدًا اليوم، فضلا عن أن كلمة {عمل صالح} لا تعني أن يكون الصلاح في الذَّات فقط، بل يكون أفضل إن كان لخير المجتمع، فلا خير في ذواتنا إن لم تنتفع بها الدنيا ومن عليها، فعمارة الدنيا هي من أسباب وجودنا نحن الصَّالحين، لذلك فإن أوج العمل الصَّالح لا ينتهي عند إصلاح نفسك أو اغتنام ثواب الاستقامة من الله، فإن ذلك إن حقق الأمان، فإنه لا يحقق السعادة في الحياة، لأن عملك الصَّالح الذي ينفع الغير أفضل من عملك الصَّالح الذي ينفعك فقط، وهو الذي يحقق لك سعادة الدَّارين.
كما أن قيمة العمل الصَّالح تتفاوت، فالعمل الصَّالح الذي يفيد أكبر عدد من الخلائق أفضل من العمل الذي لا يفيد إلا جمعًا صغيرًا، والعمل الصَّالح الذي يمتد أثره مع السنين والقرون خير من العمل الذي يزول أثره سريعا، والعمل الصَّالح الذي تتجذّر فائدته وأهميته في النَّاس خير من العمل الذي يكون هامشي الفائدة...وهكذا.
والعمل الصَّالح لا يعني عملا صالحا في وقت محدد أو مع أشخاص بأعينهم، فهو ليس بنزوة طارئة في المناسبات لا تلبث سريعا أن تزول، بل هو عمل ممتد، ومستمر، ولكل الخلائق، بل يدخل فيه الإحسان إلى الأرض والسماء، فنمنع عنهما التلوث، ونبحث فيهما من أجل إسعاد البشرية، ونتعلم من خلالهما عدد السنين والحساب، فنحسب مطلع الهلال بأوائل الشهور العربية، ولا نحملق في السماء كما كان إنسان القرن السابع الميلادي يفعل، ثم نزعم أن ذلك سنة.
لذلك ومع تطور الزَّمان، وتطور الوسائل، وتغيُّر ما كان يصلح للناس في الماضي عنه في الحاضر، كان لابد أن يتغير معهم معنى العمل الصَّالح بتغير الزَّمان، ونحن نتغير حتما دون أن ندري، لكن ترانا ننغلق حينما نضيق النظر في تعاليم الدين، فتنغلق حقيقة سعادة الدنيا في وجوهنا.
وأضرب المثل لتغير نفوسنا، فما كان يفرح به فقير زمن الصحابة إذا ما منحته قطعة من القديد {لحم مجفف على حرارة الشمس}، لا تقبله نفس فقير اليوم وتعافه ولا تقبله، وأصبح للفتاة رأي في اختيار شريك حياتها عن ذي قبل...وهكذا.
أما عن تغيُّر الأهداف الموضوعية للعمل الصالح ففي زمان كانت الصدقة فيه موضعية، أضحت في زماننا هذا لها ضرورة موضوعية، فليس من أنفق ألفًا من العملات المالية على أسرة كمن أنشأ متجرا لها بنصف هذا المبلغ، فإن أكثرهم نفعا للغير أكثرهم ثوابا، وإن قل إنفاقه، لأنك لا بد وأن توظف جهدك ومالك ليُدِر أكبر النفع على المحتاجين، وهو ما يتطلب منك جهدًا فكريًا لتتمكن من الريادة بين أصحاب الأعمال الصَّالحة، وذلك فضلا أن يكون العمل الصَّالح مما يُرضي الله، وأن يكون خالصا لوجهه تعالى، وأن تبذل فيه أقصى الطاقة، فتلكم هي من شروط العمل الصَّالح المقبول منذ بداية الخليقة.
شرح لحديث نبوي عن العمل الصَّالح
وعودة إلى الفقر الفكري الذي أصاب الأمة من تقليد وترديد الفكر السلفي في تنفيذ تعاليم النبي في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص بمسند الإمام أحمد، حيث قال: {ما من أيام العمل الصَّالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر {يعني العشرة أيام الأوائل من شهر ذي الحجة}....}، فإن الصحابة الأجلاء حينما سمعوا ذلك من رسول الله أكثروا من الصَّلاة والصوم والذِّكر في تلك الأيام العشرة، وما كانوا يملكون من حيلة في العمل الصَّالح غير ذلك.
لكن ترانا نحن بعد مرور أكثر من أربعة عشر قرنا من الزَّمان، ومع تطور دروب العمل الصَّالح والفوائد المرجوة منه للمجتمع، لا نزال نُقلِّد إنسان القرن السابع الميلادي رغم أنف كل المُتغيِّرات، فنحن لا نجد في أفكارنا معنى عن العمل الصَّالح إلا الصوم، لذلك ترانا نهرول لنصوم فيها كما كان يفعل الصحابة ونظنه أوج الصلاح الذي أمر به النبي، ولم نعلم أن العمل الصالح تتغير قيمته وشكله وأهدافه تبعا لمتغيرات الزمان، وهو ما سيتم بيانه في السطور التالية.
نعم أعلم أن الإمام مسلم ذكر في صحيحه بالحديث رقم (1163) ما رواه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :"أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرم. وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل"، لكن ذلك عن أفضل الصوم وليس عن أفضل الأعمال، وهو يعني شهر المحرم وليس شهر ذي الحجة.
تباين معنى العمل الصَّالح بتباين الزَّمان و المكان والشخص
لو أننا كنا تطورنا بمفهوم العمل الصَّالح كما تطورت الأزمنة، لعلم الموظف أن كرسي وظيفته كمحراب صلاة، ولاستحى مما يفعله بوظيفته، ولعلم أن ثوابه بالوظيفة العامة أعلى مقاما وعددا من ثواب صومه، ولا يقولن قائل أن الموظف يصوم ويؤدي وظيفته في آن واحد، فإن الرسول يريد منا في الحديث المذكور عن العمل الصَّالح في العشرة أيام الأوائل من شهر ذي الحجة أوج العمل الصَّالح، وليس العمل الصَّالح فقط، لأنه من المفترض أن يكون العمل الصَّالح هو نهج المسلم يوميا، والأوج يكون بتلك الأيام العشرة كما يكون بشهر رمضان.
وما يكون أوج العمل الصَّالح إلا ببذل أقصى الطاقة فيما يفيد أكبر عدد من النَّاس ولأطول مدى زمني، كلٌ وفق طاقته وقدرته، والصوم والصَّلاة والتسبيح لا تتوفر فيها تلك الشرائط قدر ما تتوفر في أداء الوظيفة العامة بإخلاص وإبداع، وقدر ما تتوفر للمجتهدين والمبدعين من المهنيين والحرفيين الذين يريدون رفعة لأوطانهم، إرضاء لربهم وطاعة له في البحث لتنمية دروب تخصصاتهم الحرفية أو العلمية.
فالمدرس الذي يُبدع وسيلة حديثة من وسائل التعليم إنما يقيم أوج العمل الصَّالح...، والحرفي الذي يبتكر أفضل من الحرفي المُنَفِّذ...وهكذا، فلابد لكل منا أن يبذل قصارى جهده وفكره ليفيد من حوله، وليبقى ذكره بعد رحيله عملا تعمُر به الأرض والفكر، وليكن له تلامذة يسيرون على دربه، يؤكدون منهاج إخلاصه ميراثا يسري في الأجيال.
ولي أن أسوق الدليل من السُّنة النبوية فيما قاله النبي ، ولكن بدايةً لابد من العلم أن أقوال رسول الله لها اختلاف وفق البُعد الزمني، وأحيانا لها بُعدٌ مكاني، وأحيانا أخرى تختلف وفق بُعد المُخاطَب..وهكذا، فليس كل قول للنبي صالحًا لكل زمان ومكان كالقرءان الكريم، فإن هذا الفكر أوقع الأمة في أغلاط كثيرة لذلك وجب التنويه.
التباين كان نهج رسول الله
كان النبي يتباين حُكمه أو قوله، تبعا للظروف أو الشخص الذي يخاطبه، أو الزمان أو الحال، فتلك هي سنته التي يجب أن نقف عليها، وندلل عليها بما يلي:ـ
1ـ فمن أمثلة تغيُر الحُكم بتغير بُعد المُخَاطَب، إجابته للذين سألوا عن أفضل الأعمال فقد قال لأحدهم:{ إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيل الله ثم حج مبرور} رواه البخاري، وقال لآخر عن ذات السؤال:{الصَّلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله} رواه مسلم، وقال لثالث: {عليك بالصوم فإنه لا مثل له} رواه النسائي، كما أنه لم يرخص لابن أم مكتوم بأن يصلي في بيته بينما رخص لعتبان بن مالك رغم كونهما يشتركان في انعدام نعمة النظر، المرجع {البخاري كتاب الأذان}.
2ـ ومن أمثلة اختلاف الحكم باختلاف الزَّمان والظروف، قوله بعد فتح مكة: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية} وكان يرخص قبل فتح مكة في الهجرة من أي بلد فيه عنت للمسلمين، كما أن هذا الحكم لا ينطبق علينا في هذه الأيام، وإلا ما استطعت أن تغادر بلدك الذي لا تستطيع أن تقيم فيه حدود الله وتهاجر إلى بلد آخر، حتى ولو كان إلي مكة ذاتها.
3ـ ومن أمثلة تغير الحكم بتغير المكان، ما قاله النبي عن تمر المدينة المنورة وفضله في دفع السم، فإن هذا الحكم لا ينسحب إلى أي تمر إلا تمر المدينة...وهكذا.
وقد تختلف قيمة العمل الصَّالح وأهمية نوعيته وفقا للظروف، فحين تكون حدود الدولة مهددة يكون أوج العمل الصَّالح الالتحاق بالجندية، وليس سماع الدُّروس الدينية، ولا الاعتكاف بالمساجد، وحين يعم الفقر يكون إنفاق المال هو أوج العمل الصَّالح، وحين ينتشر الجهل يكون نشر العلم أوج العمل الصَّالح، وهكذا تتغير قيمة العمل الصَّالح المطلوب بتغير الظروف التي تمر بها البلاد.
والأمثلة أكثر من أن أحصيها، فبينما كان حفظ كتاب الله عن ظهر قلب من أوج العمل الصَّالح في زمن سابق، فإنه اليوم ومع المخترعات الحديثة من أجهزة تسجيل وحواسب الكترونية تم تسجيل القرءان بها قد تقهقرت أسبقيته، وأصبح تدبر القرءان هو الأولى ببذل الجهد.
وقول النبي :{المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير}، قد ينحصر في زمانه في المؤمن القوي البنية أو الشخصية، لكنه اليوم يعني أكثر من ذلك فبالنسبة للمؤمن ذي الجاه يعني العمل الصَّالح في حقه إحقاق الحق وإبطال الباطل، وبالنسبة للعالم يعني العمل الصَّالح في حقه الإبداع في نشر العلم، وقد يدفعه ذلك إلى دراسة علم النفس، وبالنسبة للغني قد يكون في زمان مضى أوج العمل الصَّالح إطعام الطعام، أما اليوم فبالنسبة له يكون توفير فرص عمل، أو إنشاء مَصَحَّة للفقراء هو أوج العمل الصَّالح.
ومن البيان العملي لفقداننا التباين الواجب في عمل الصالحات، أنك تجد العاصي القائم على معصيته الذي يصوم وفق منهاج الميراث، يكون أحوج للتوبة من معاصيه عن أن يصوم، وكان حريًا به أن يتوب أفضل له من صومه بتلك الأيام العشرة، لكن ميراثه الفكري يؤثر عليه ويرغمه على الصوم تصورا منه أنه يقوم بالعمل الصالح، وما أراه إلا عملاً صالحاً متوارثاً بلا عقل، وأظنه غير مقبول، فرب صائم لا يأخذ من صيامه إلا الجوع والعطش.
ومن التباين في الأعمال الصالحة وقيمتها وفق تغير هوية كل شخص ما قيل في التوبة أنها حسن، لكنها في الشباب أحسن، والعدل حسن، لكن في الأمراء أحسن، والورع حسن، لكن في العلماء أحسن، والحياء حسن، لكن في النساء أحسن، والصبر حسن، لكن في الفقراء أحسن، والسخاء حسن، لكن في الأغنياء أحسن، والعمل الصالح حسن، لكنه في الشباب وبنهاية العمر أحسن، والقبض على الدين حسن، لكنه في الفتنة أحسن...وهكذا، نجد تباين قيمة العمل الصالح وفق كل شخص وحالته والظروف المحيطة به.
ثم وفي وجه آخر من وجوه ضبط أمر العمل الصالح عن الاعتبار بما حولنا، ألم ير أبناء ديني كيف تقدمت الدنيا من حولنا بينما أحلنا نحن دنيانا إلى خراب، إن النعاج والأغنام التي نربيها أهزل من أن تقف أمام شموخ أغنام أهل الغرب، ولقد علَّمُونا صناعة الدواجن، ففشلنا فيها، ولا زلنا نستوردها منهم لنأكلها على موائد إفطارنا، بينما نحن ذاكرون وصائمون، ونظن أننا نعمل الصالحات، فأين قيمة الإبداع في العمل الذي تتطور به الزراعات والنعاج والدواجن؟ لقد خرج من منظومة العمل الصالح في ثقافتنا الواقعية.
وكعادتنا في تكريس الضحالة الفكرية فإننا حين أطلقت أمريكا كبسولة فضائية وبها رواد فضاء، وكانت تلك الكبسولة تدور حول الأرض مرة واحدة كل ساعة ونصف، فكان يمر على روادها الليل كله والنهار كله في ساعة ونصف الساعة، فكان شُغلنا الشاغل: كيف يقيم رائد الفضاء ـ إن كان مسلما ـ الصلاة؟، وكيف يحسب توقيتاتها ليؤديها؟، ولم يدر بنا الفكر عن مدى تخلفنا عن الحاضر الذي نحياه!!، ولا مدى ما فاتنا من علم، ولا كيف نلحق بأولئك الذين تقدموا!!، ولأننا لم نتطور فقهيا، ولأننا لا نتدبر كتاب الله فلم يدر بخلدنا أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فكن ربانيا واجعل عملك كله لمرضاته، واعلم أن رائد الفضاء ليس لديه ماء وضوء، ولا دورة مياه، وحتى الحصير الذي تصلي عليه فهو لا يملكه، لذلك فصلاته تكون وفق ظروفه.
والدعوة إلى الله تراها تعاني من نمط سلوكي من الهشاشة، وذلك بانتقاء الموضوعات المكررة من وجه خاصة بالمناسبات، ومن وجه آخر تكرس لفقه الشعائر والدعاء بالمأثور، وتقليد الصحابة رغم اختلاف الأزمان والعهود، بينما تترك الحابل في النابل لفقه الحياة بدين الله، فقد كرس الدعاة الدين للحياة واعتبروا العلم الشرعي هو العلم الناجع والمفيد والضروري لمن أراد رضوان الله، ولم يبث أحدهم ـ إلا على اختصار واستحياء ـ أن الرفعة في الدنيا والعلوم التجريبية من أصل العمل الصالح، مع عدم إهمال العلم الشرعي، حتى أنك ترى بموطأ الإمام مالك كتاب اسمه كتاب العلم ليس به إلا حديثا واحدا، حيث قال بالحديث رقم: { 1821 } حدثني عن مالك انه بلغه ان لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال {يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء}، بينما يستفيض أي مرجع من مراجعهم في غُسل الجمعة، والبكور إلى الجمعة، واستحباب ما يقرأ يوم الجمعة، وفضل الصلاة على رسول الله يوم الجمعة وليلتها، والتطيب يومها،....وهكذا.
ولقد كان لمؤلفاتهم ونوعيتها وموضوعاتها أكبر الأثر لتكريس هذا الاتجاه بين المسلمين، وبها تخلف جهد المسلمين عن الدنيا، وأصبحت دولهم تسمى بالدول النامية رغم ما يملكون من ثروات وهبها الله إياهم، لأن المخلصين والمتعمقين في دين الله انصرفوا لتلك المحفوظات، وظنوا أنهم أهل التقوى وأهل المغفرة بينما هم يشدون قاطرة الأمة إلى أسفل دون دراية منهم.
لست ضد البكور يوم الجمعة ولا التطيب، ولست ضد الغسل لها وغير ذلك من فقه الشعائر، لكني ضد تكريس الوقت وحشو الأدمغة وتأهيل الناس لعدم رؤية أهمية قصوى إلا لذلك الفقه المستمد من طريقة حياة كانت تصلح للناس في زمن غير زماننا، حتى هلكنا وتخلفنا لعدم سعينا إلا في تلك الدروب.
إن رؤيتي للأمور يجب أن تكون في تطور مستمر طالما حقق ذلك التطور مقاصد الشريعة، وأضرب في ذلك المثل، فتعلُّم الكمبيوتر (الحاسب الآلي)، والدخول على شبكة الإنترنت، أراهما من السنة النبوية، لأن النبي إن كان موجودا بيننا لتعلمهما، لأنه كان خُلُقُه القرءان، والقرءان يقول: {.... وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }طه114؛ فلابد أنه سيكون أول من يستزيد من العلم.
وقس على ذلك كل شيء حولنا، لقد أحلناه خرابا ونحن نصوم ونُصلِّي، ونصيح قولا أن عمران الدنيا من الإسلام، بينما لا توجد صناعة ولا زراعة ولا أدب ولا حضارة ولا علوم ولا أبحاث، بل نجد منا من يجهر بكل الفخر بفقر رسول الله، وكأنما يستحثنا على الفقر، وهُم يحاولون تعميق الزهد فينا بذم الدنيا في مقالاتهم وخطبهم، بينما يُعظِّمون فوائد الذِّكر والتَّسبيح والصوم والصلاة، ثم على استحياء يذكرون العمل أحيانا.
وكنتيجة مباشرة لمعتقد أن العلم الحقيقي هو علم الدين، أن خربت بلادنا من التقدم والحضارة في كل العلوم إلا علمًا أكاديميًا في الدين، وهم يفخرون بعدد المآذن في بلدانهم، ويكثر ذكورهم القول بالفخر أيضا بأنه يستطيع أن يتزوج أربع نسوة، بينما لا يدرك حقيقة التشريع فيها، وهكذا أصبحوا حاضرين في الدنيا وكأنهم غائبون، بل ويصيحون بضرورة عمارة الدنيا، ولست أدري أي دنيا؟ وأي عمارة؟، ولست أدري أين الأثر على الأرض لعملهم الصالح الذي يعملونه؟، أو السنة النبوية التي يزعمونها.
لقد ذكر الشيخ/ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ في كتابه كيف نفهم الإسلام بالصفحة رقم 39 منه ما يلي: { أتدري معنى تقلُّص الإسلام من الميدان الاقتصادي وانفراد الآخرين بالسلطان الواسع فيه؟، إن معنى هذا هوان رسالته، وبوار دعوته، ثم تقلُّص رُقعته المعنوية والمادية معا، واستحالته إلى أنقاض، لا يُسمح لها بالبقاء إلا ريثما يتم التخلص منها، ويمهد لغيرها}.
لقد كتب الشيخ ذلك الكتاب عام 2003 أي منذ أكثر من ثماني سنواتٍ خلت، وما زلنا في مكاننا، لا نتأثر إلا بالقديم والقدماء، وظل فكرنا عن العمل الصالح حبيس ماضي السلف الصالح وصورة أعمالهم، فأصبحنا طاقات معطلة، وإن عملنا فإننا لا نعمل إلا ما يسيء لبلداننا، أو نعمل بصورة عشوائية أو تقليدية، لأننا لم نعلم أن أساس العمل الصالح هو ما يفيد المجتمع، بل ترانا نُقدم أسوأ صورة عن عدم التعاون بيننا، مع فقدان الإخلاص في جميع الميادين.
والعمل الصَّالح قد يكون فريضة، وقد يكون سُنَّة، وفرضيته قد تكون فرض عين، وقد تكون فرض كفاية، فمسئولية الأب في أولاده أن يقوم بتنشئتهم على منوال من رضوان الله، واستمرار وعظهم وهو فريضة في حقه، فإن لم يقم بها أثِم، ومسئولية الأعمام والأخوال فرض كفاية بالنسبة لأبناء إخوتهم، فإن قصّر الأب عن أداء مهمته صارت مسئولية التربية فرض عين على الأعمام والأخوال...وهكذا.
وحكم كون العمل الصَّالح سُنَّة يختلف باختلاف الواقع، فقد تكون سُنَّة يلزم القيام بها، وقد يكون العمل بها مندوبا، فوجود الطبيبة المسلمة يُلزم النساء بالتوجه إليها لتنفيذ سُنَّة التداوي والحفاظ على الصحة، ويكون حينها ذهاب النساء للذكور من الأطباء مكروها، وحينما يكون التداوي بالأعشاب وبأصحاب الخبرات مندوبا، فإنه يكون مكروها في وجود الأطباء والأدوية...وهكذا.
وحين يحُثُّ النبي أُمَّتَهُ على العمل الصَّالح بالأيام العشرة الأولى من شهر ذي الحجة، إنما يطلب زيادة عمل الصالحات، ولا يطلب عمل الخير فقط، ويكون ذلك العمل الصَّالح عملا نوعيا وفق ظروف كل دولة، ووفق إمكانات كل فرد، بما يعني ضرورة إبداع كل فرد فيما أمكنه الله فيه لتنمية أمة بأسرها، أو لإفادة الآخرين، وأخيرا لنفسك وهو أقل القليل.
الدولة وموظفوها والعمل الصَّالح
قد تُنفق أموال الأوقاف في زمان مضى لمساعدة المحتاجين وإنشاء المساجد، لكني أرى أن إنفاقها على البحث العلمي الذي دأبت الدول العربية على عدم مساندته أفضل من إنشاء المساجد، كما أرى أن التخطيط وتنفيذ ربط مصر بالسودان بطريق مُعَبَّد أعظم ثوابا من كل ما غنمه جميع الصائمين هذا العام من ثواب في العالم الإسلامي بأسره.
ولو تعاونا تم لإنشاء جسر بحري بين مصر والسعودية لكان أفضل لاتحاد الأمة وقوتها، ألم ير المسلمون أن فرنسا وإنجلترا ارتبطتا بنفق تحت بحر المانش رغم ما كان بينهما من حروب طاحنة على مر التَّاريخ!؟، ألم يسأل أحد الحُكَّام أو المنافسين من أهل المعارضة في دولنا الإسلامية، لماذا لم ترتبط مصر والسعودية بسكك حديدية عبر خليج العقبة؟، أم ترانا ندرُس الجغرافيا لأجل الحصول على شهادات لا تنفع الأمَّة، أو نتقلد المناصب لأجل استمرار القطيعة والاختلاف بين دولنا!؟، أم أننا نُنَفِّذ للغرب تعليماته لاستمرار الفُرقة والتفكك بين دولنا بينما نصوم ونظن أننا نُحسن الصنع.
ولو تم التخطيط ثم التنفيذ لإنشاء شركة للصيد بأعالي البحار أو حتى ببحيرة ناصر، لكان أفضل من كثير من نوافل الشعائر التي يهتم بها الموظف العام سواء أكان وزيرًا أم رئيسًا لمصلحة، أو رئيسًا لجمهورية أو ملكًا.
كما لم يكن الإنفاق على البحث العلمي موجودا بزمن النبي، حيث لم يكن هناك بحث علمي، وهو اليوم فريضة لازمة في حق القائمين على الدولة، فما فائدة صومهم بينما الدولة تَجُر أذيال التخلف الصناعي والتخلف الزراعي والتخلف التقني في عهودهم؟، لا شك أن مفهومهم عن العمل الصَّالح قد انغلق على فكر قدماء السلف.
كل تلك المشروعات تبدأ من عند موظف عام مخلص في عمله، سواء أكان صائما أيام النوافل أم لا، لكن المهم أن تعلموا أن دروب الإخلاص في زماننا غير دروب الإخلاص زمن الصحابة، وأننا في أيامنا هذه أوفر حظا منهم بتوفر ذلك التنوع، لكن يعوزنا الإخلاص والتفاني والخروج من شرنقة الماضي، بل فقدنا العقل والرشاد، ووقعنا في غرام فقه السلف بلا ضابط.
وحسنا قال الشيخ الغزالي ـ رحمة الله عليه ـ في كتابه {ليس من الإسلام}: "فمن ظن الدين قياما بأعمال معينة في أماكن معينة فهو واهم، إنه لن يتم إيمان إنسان إلا إذا تكونت في نفسه ملكة الإجادة فيما يوكل إليه من عمل، وهي الإجادة الشاملة التي تبلغ بالأمر تمامه، وتكره فيه القصور، وتخشى عليه الفساد، ....ثم استطرد يقول: إن شر ما أصيب به الدين حصره في طائفة من الأعمال يحسب الجُهَّال أنهم إذا أتوا بها فقد أدوا واجبهم ولا عليهم بعد، هذا الفهم الخاطئ جعل الحياة تشقى بأصناف العابدين الذين يصلون ويصومون، لكن أعمال الحياة تفسد في أيديهم، لذلك لا يؤمنون عليها"، وقال:"إن انحصار العمل الصالح في عبادات خاصة جعل طُلاََّب التقوى يشغلون أوقاتهم المتطاولة بتكرير هذه الأعمال المحدودة وكأنهم لا يرون غيرها وسيلة إلى مرضاة الله".{راجع من ص170ـ172 من الكتاب المذكور}.
إن العمل الوظيفي بنظرية {ما تيسر} إنما يُمثِّل خيانة للأمة، وإن بذل أقصى الطاقة إنما يُعَبِّر عن قويم الأخلاق التي نتنادى بها، دون أن يكون لنا حظ منها إلا من سمات شخصية لا تخرج عن كونها من الذوق، والكفاح لا ينحصر في ميادين القتال، إنما أصل الكفاح من أجل الخير ونماء البشرية.
أمر آخر ألوم عليه نُظُم العمل بديوان الدول، فلقد قام الحكم بالدول الإسلامية بدور الوصي، وقامت الأمة بدور القاصر، ومن ثم نشأت روح الاتكالية بالمجتمعات الإسلامية، واعتمدت الشعوب على الحكومات في ترتيب شئون حياتها العامة والخاصة، كما اعتمدت على التراث والاغتراف منه بلا تعقل لترتيب شئون دينها، فتخلفت الأمة بينما يحسب كل من فيها أنهم يُحسنون صنعا، لذلك بات من الضرورة تدمير المبهمات في حياتنا للخلاص من ذلك النهج، ولابد أن يعلم المواطن كل الظروف المحيطة بحياته ودولته ودينه، ولا يكون ذلك إلا بإطلاق الحريات بكل أشكالها، حتى نخلُص إلى مواطن يُحسن الاعتماد على ذاته، ويطور تلك الذات لمنفعة الوطن.
وقد يلوذ أحد المشجِّعين للذِّكر القولي والتَّرانيم بأن هذا الأمر ليس في مُكنة المسلم العادي، وهو جدل عقيم، إذ إن الموظف المسلم فقد الفكر الصحيح عن العمل الصَّالح، وانتهى أمره أن أصبح يورِّث الأجيال المتعاقبة فكره الضَّئيل المتهالك عن العمل الصَّالح، وحصر انتصاراته في شغل الوقت بتسابيح كان يمكنه القيام بها حين تعلو همَّته العملية لعمارة الأرض، فيغنم الاثنين معا، لكن هيهات لمن ورثوا الضَّآلة أن تقفز هممهم وأفكارهم، بل تراهم ورثوا المسبحة عن أجدادهم، فهذه مسبحة بثلاث وثلاثين حبَّة، وتلك ذات مائة حبَّة، وأخرى بعدَّاد يوصلك إلى مائة ألف تسبيحة، وتلك تبلغ بك المليون تسبيحة....وهكذا، وهذا يصوم النوافل وذاك يقوم الليل، لكن أين فائدة المجتمع أهي في روتين وظيفي وعملي من مصلين وصائمين ومسبحين بالنوافل؟، لست أدري!.
وهؤلاء حين يحين دورهم لتقلد المناصب، لا يجدون في معينهم عن العمل الصَّالح في وحدة الأمَّة إلاّ الشِّعارات والصَّيحات، هذا فضلاً عن عدم قيام الدُّعاة بتوجيه النَّاس لتلك الأهداف العليَّة، ولا زالت أغلب الطرق الصُّوفية لا شُغل لها إلاَّ مقابر الصَّالحين، والسلفية لا همَّ لها إلا النبش والبحث عن فقه الأقدمين، وبينهما جماعات وجمعيات صرفت اهتمامها لإطلاق اللحى والإكثار من استخدام السواك، مع التنسك بشعائر من السُّنَة، والدعاء بالمأثور، وآخرون تصوروا الجهاد وحصروه في حمل السلاح وإثارة الرعب بين النَّاس، وهكذا أصبحت دولنا خرابًا وتخلفًا.
إن تَمَكُن الدولة الإسلامية وأفرادها من الدنيا يوفر قاعدة تمكين لدين الله في الأرض جميعا، وما هزمتنا إسرائيل مرارا، أو لعلنا نخشى مواجهتها أو مواجهة دول مثل أمريكا أو روسيا، إلا لأننا فقدنا الدنيا فأصبحنا أذلاء الأرض بصورتنا الفكرية عن الدين والعمل الصالح، وفقدنا المهمة الإستراتيجية للموظف العام بالدولة .
وأنـا أول المسلمـين
أوج العمل الصَّالح يختلف من شخص لآخر، ومن عصر إلى عصر، ومن مناسبة لأخرى كما تم بيانه، وكان ذلك هو نهج النبي ، لكن لعدم تدبر المسلمين لكتاب الله، وعدم تفهمهم لسُنَّة نبيهم، ظهر المقلدون الذين زينوا ما يقومون به من تقليد، فنعتوا أنفسهم بأنهم سلفيون نسبة للسلف الصَّالح، لكن إذا كنا نستهدف أعلى رضوان لله، فعلينا بحسن مدارسة القرءان والسُّنة، وقد قدمت كيف أن أحاديث النبي وتوجيهاته كان لها أبعاد زمانية ومكانية وشخصية مختلفة.
ولقد خبرت النَّاس وهم يظنون في قوله تعالى: {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }الأنعام163؛ وقوله: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ }الزمر12؛ فحسبوا أن تلك الأولوية تعني النبي فقط، وهو من انحراف التدبر في كتاب الله، وحتى إن كان ذلك صحيحا أو حوته بعض التفاسير، فأنت مأمور باتباعه ، بما يعني أنك مأمور بأن تكون أول المسلمين، وبذلك فأنت في حالة تنافس بينك وبين كل أهل الإسلام الذين يعيشون في زمانك، مما ينبغي عليك أن تكون مبدعًا أو تحاول الإبداع في عملك الصَّالح، وتكون رائدا، يحتذي بك من يريد الرفعة لنفسه، والله تعالى يقول عن الأبرار بالآية 26 من سورة المطففين: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }، فالتنافس مطلوب، ونحن مأمورون باستباق الخيرات والمسارعة للحصول على مغفرته ورضوانه ، ثم جنات النعيم بإذنه ووعده، فإننا إن فعلنا ذلك وانتهينا عن المنكر، كنا خير أمة أُخرجت للناس حقا، وبغيرها نكون أمة من المفلسين كما ترى حالنا الآن.
وكما ذكرت فقد كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يسألون النبي أي العمل أفضل؟ فيجيبهم، وما ذلك إلا من حرصهم أن يكون عملهم الصَّالح أفضل ما يُرضي الله، وكان النبي يقول أحاديث كثيرة، تبدأ كلها بقوله خيركم، فقال: خيركم من تعلم القرءان وعلَّمه، وقال: خيركم خيركم لأهله، وقال: أحسنكم قضاء، وقال: أحسنكم أخلاقا، وقال: من يرجى خيره ويؤمن شره، وقال: من أطعم الطعام...إلخ، كل ذلك يؤكد حث النبي أصحابه ليكونوا أخير النَّاس بأفضل العمل.
وعلى ذلك فكلما كان عملك الصَّالح متميزا، كلما كان متوائما مع مراد الله فيك، لذلك فالتنافس والتميز والاستدامة وقوة التأثير وكثرة من يخدمهم العمل الصَّالح، كلها تدفع بصاحبها إلى صدارة المسلمين في عهده، وبذلك تكون أول المسلمين، لكنك إن صمت حياتك كلها، ما توصلت لتكون أول المسلمين، إلا إن كنت لا تُحسن غير هذا، فلا تُكلَّف إلا وسعك.
من علامات قبول الله الأعمال الصَّالحة من العباد
إن العمل الصالح واستمراره يعبران عن حقيقة إيمان العبد، ولو قبل الله عمل هؤلاء الباذلين في رمضان، والصائمين في العشرة الأوائل من ذي الحجة، وفي مناسباتهم الدينية الشهيرة، لرأيتهم يملئون المساجد بعد مرور تلك الأيام، وذلك لقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً }مريم76؛ وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ }محمد17؛ وقوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ }الشورى23؛ فكل ذلك من علامات قبول الله العمل من العاملين، لكنك ترى أنهم موسميون، لا يعملون إلا حينما يُطلَب منهم العمل، وإن عملوا فإن نهجهم هو أقل القليل وبلا تفان، لذلك فإن الله لا يزيدهم هدى، ولا يزيد في حسناتهم، بل يعودون لما دأبوا عليه من هجران المساجد، والامتناع عن صوم السنن، وعدم صلاة الصبح بموعدها، وهجر تلاوة كتاب الله، ويقل إنفاقهم وبذلهم للفقراء بصورة شديدة، وما ذلك إلا لنهجهم في عدم الإخلاص لدين الله إلا بالمناسبات، وبالسنن الخاصة بالشعائر فقط.
إن هؤلاء إن كانوا علموا أن الإخلاص هو مناط القبول، لكان لهم شأن آخر غير نهجهم الميراثي في عمل الصَّالحات موسميا، بينما الله يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ }البينة5؛ فالإخلاص هو نبع قبول الله للأعمال، ولا يكون ذلك إلا من همم مندفعة بإيمان يملأ القلوب في كل وقت وحين.
هل ينحصر معنى قيام الليل في الصَّلاة فقط؟.
لقد كان الصحابة يقومون الليل بكثرة الصَّلاة، وسبق وذكرت السبب، وقد وصفهم الله لنا في قوله تعالى بسورة الذاريات: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ{17} وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{18} وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ{19}؛ فهل ينحصر قيام الليل بأيامنا هذه في الصَّلاة والاستغفار وتلاوة آي الذكر الحكيم؟، أو الاعتكاف بالمساجد للصلاة والتسبيح؟.
إني أرى قيام الليل في طالب يكد في مذاكرته ليلا، وأراه في صحفي يسعى للخبر ليلا لينشره صباح اليوم التالي، وأراه في كل نوبتجي بالليل بكل موقع من مواقع العمل، فنوبتجي محطة المياه أو الكهرباء يقوم الليل وإن لم يركع ركعة واحدة كنافلة في ليلته.
وباحث بالليل بمعمله أو بمكتبته، وفي طبيب بعيادته الخاصة لفائدة المجتمع، ولو كان يربح، وفي محام بمكتبه يسهر لحل الخلاف وأداء الحقوق إلى أهلها، كلهم وأشباههم من القائمين الليل على أن تنصرف نياتهم لأداء أعمالهم لرضوان الله.
وكل تلك الدروب وغيرها لم تكن موجودة على عهد رسول الله ؛ فلماذا انحصر فكرنا عن قيام الليل في الصَّلاة فقط، بل وترانا نردد سنويا كالببغاء حين نقوم بها في جماعة ـ بشهر رمضان فقط ـ أن عمر بن الخطاب قال {نعمت البدعة هذه}، ومنا من يقول بأن الصحابة كانت تتورم أقدامهم من كثرة قيام الليل في صلاة، ولست أدري فقه التورم والدعوة إليه واستحسانه في أيامنا هذه، إلا أنه فقه لأصحاب الأزمات النفسية والفساد الفقهي.
فلماذا لا تأخذون عني بدعة قيام الليل لمصلحة الأمة، ومصلحة الدولة، ومصلحة الحي؟!، هل لابد أن يكون قيام الليل صلاة أو تلاوة فقط؟، إني أرى ما ذكرت أفضل مما ورثتموه بلا اهتمام منكم بتطور الزَّمان والاهتمامات والاحتياجات، وذلك مع تقديسي وأدائي للصلاة المفروضة في موعدها، وللنوافل التي تحتاج لها نفسي، شريطة ألا تؤثر على مصلحة المجتمع، لكن لابد وأن تكون الأسبقية اليوم في العمل الصَّالح لمصالح نماء الحياة والغير، ولا يمنع ذلك أن يصلي من لا يحسن إلا قيام الليل بالصَّلاة فليقطع الوقت في الصلاة كما يشاء.
إن التلمظ النفسي والفكري عند البعض خوفا من ضياع تُراث الصحابة، يعبِّر عن غباء فكري أودى بنا إلى تقليص معنى العمل الصَّالح داخل دائرة الشعائر وما شاكلها من النوافل، مما تخلفت به الأمة، وأصبحت في ذيل الأمم، ولأن هؤلاء السدنة لا يجيدون إلا ذلك الفكر فقد توسعوا في فكر التحريم، وتوسعوا في فقه القُربات من خلال الشعائر بلا ضابط، فها هم يوقفون قص الشعر والأظافر لمن يريد أن يضحي بأضحية لله بمناسبة عيد الأضحى، وكأنهم يضيقون عليه لأنه يريد القيام بسُنَّة، ويزعمون أنه بذلك يحصل له من الثواب ما يحصل للحاج، وهم لا يستحون أن ينسبوا ذلك الهراء لرسول الله، ويقولون أنه بكتب الصحاح التي لا تتواجد بأيديهم نسخة واحدة مخطوطة منه بخط أحد أصحاب الصحاح الذين أُحرقت صحاحهم بحريق مكتبة بغداد حين هاجمها التتار، لكنهم مع ذلك يتعصبون ويقدسون ما لا يجب التعصب له ولا تقديسه، وما أراهم إلا مثل من كانوا يوزعون صكوك الغفران على النَّاس من خلال تعاليم من صنعهم.
الفرق بين العمل الصَّالح وعمل الخير
وثمة فارق كبير بين العمل الصَّالح وفعل الخير، فليس كل فعل خير من العمل الصَّالح، فمن ينفق في سبيل الله أموالاً جلبها من حرام لا يقوم بعمل صالح، إنما يقوم بعمل خير للآخرين، لكن لا يقبله الله، والذي يدخل مزادا يخصص دخله لمصلحة الأيتام، فيشتري رداء لراقصة مشهورة، لا يعمل عملا صالحا، ولا الراقصة التي يهوى لباسها، إنما هو يقوم بعمل خير لصالح الأيتام لكنه ليس بصالح للعرض على الله كحسنة يُثاب عليها، فالعمل الصَّالح يجب أن يكون مما يقبله الله، وأن يكون خالصا لوجهه، وأن يبذل فيه أقصى الطاقة، والله تعالى يقول في مُحكم آيات الكتاب: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }الأحقاف15، وكما ورد بالحديث: {إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا}.
أما ذكر كلمة الخير في القرءان فيعني الخير المطلق، أي الذي استوفي شرائط قبوله، بما يعني أنه عمل صالح، وقد تعني تلك الكلمة في أحيان أخرى التمايز بين الخير والشر، لكن لا تعارض في تمييز عمل الصَّالحات الذي ذكرناه، عن عمل الخير الوارد بالقرءان على أنه عمل صالح، وهما غير ذلك الخير الذي أطلقه النَّاس في أيامنا هذه بلا تمييز على كل الأعمال، حتى أقاموا المزادات الماجنة واليانصيب وحفلات الغناء والرقص حتى الصباح بدعوى أن الحصيلة ستئول لعمل أو جهات الخير.
تخصص الدعاء وقراءة القرءان
من بين معتقداتنا أن الدعاء مخ العبادة، لذلك ترانا وقد أفردنا للدعاء مرتبة خاصة، ولأسفي فإن الناس قد انتهى جهدهم عند الدعاء، ويتصورون أنهم يعملون عملا صالحا، فهم يدعون الله ولا يعملون.
هل تصور الناس أن الله يجيب دعاء أعزب أن يهبه الله ذرية طيبة!، إنه لابد عليه أن يتزوج أولا حتى يقبل الله دعاءه ويهبه ما يبغيه من ذرية طيبة، لذلك فإن الدعاء بلا عمل غير مقبول، ولقد بين القرءان ذلك بقوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }البقرة250؛ بما يعني أنهم أقدموا على العمل ثم جأروا لله بالدعاء، ويقول تعالى بسورة يونس: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ{9} دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{10}؛ وهو ما يعني أنهم آمنوا أولا، ثم عملوا الصالحات ثانيا، ثم دعوا ربهم ثالثا.
وإن الذين تخصصوا في ميكنة الدعاء، والذين طبعوا نصوص الأدعية في كتب، إنما يُخَدِّرُون الأمة، ويصنعون سقطات نفسية استعاض بها أولئك الداعون لله دون عمل يسبق الدعاء، ودون إبداع، ودون دراسات، في زمن يرعى العلم والإبداع، لقد استعاضوا بها عن العمل، وخانوا الأمة حين قاموا بتفسير قوله تعالى إن كثرة الاستغفار القولي تصنع الرفاهية وتزيد في الذرية، وحرضوا الناس على كثرة الاستغفار بقولهم إن النبي كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة، ولم يُعلِّموهم أن الاستغفار نسيج عملي يتبعه اعتراف قولي.
إن أولئك الداعين والمستغفرين يظنون أنهم يقومون بعمل صالح، ويمنحون أنفسهم حق الراحة بعد عناء الدعاء والاستغفار، وهو ما يضر بمسيرة الأمة نحو التقدم الخلقي والعملي، وكان يجب التعامل مع الأمر بتكامل، حتى لا تتخصص الأمة في القول بلا عمل، فما أسهل تلك المهمة، وما أسوء نتائجها.
ويسهل على الجميع إطلاق تلك الترانيم القولية التي تخرج من الفم، إن ذلك هو منطق ومنطلق الكسالى من الذين يتصورون أنهم يحسنون صنعا، فقراءة القرءان، والتقعر فيه، وقطع أشواط من الوقت والفكر لأجل أحكام التلاوة، أمر لا بأس به، لكن أن يظل هذا حال كل من بالمساجد في تعاملهم مع كتاب الله ولسنوات عديدة، فذلك ليس بعمل صالح، لكنه إسقاط نفسي ومخدر موضعي يظن به صاحبه أنه يعمل عملا صالحا، لأن الأصل في القرءان التدبر العقلي والتنفيذ العملي لما تم تدبره، والدعوة به.
فضل العمل الصَّالح لصاحبه في الدنيا
وللعمل الصَّالح جزاء في الدنيا قبل الآخرة، فيقول تعالى في شأن جزاء الدنيا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}النحل97؛ ويقول تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }النور55؛ ويقول تعالى: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ }الجاثية21؛ فالحياة الطيبة والاستخلاف في الأرض والتميز عن أصحاب المعاصي في الدنيا والآخرة هو الجزاء الصريح لمن كان عمله صالح.
جزاء العاملين صالحا في الآخرة
وللمداومين على العمل الصَّالح جزاء مميز في الآخرة، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق